أسئلة أزلية-1



لا أدري بالضبط متى بدأ ذلك السؤال يراودني، ولا أعلم الأسباب التي دفعتني إلى هذا التساؤل، وما هي المقدمات التي أدت إليه، ولكن أول ما تسجله ذاكرتي في هذا الصدد هو حين كنت في العاشرة من العُمر، أو ربما أصغر أو أكبر ببضع سنين، إذ كنت جالسة على ذاك المقعد الأزرق الذي تعلوه لوحة معلقة على الحائط لشرفة عليها ورود، وكانت السماء الزرقاء تبدو من النافذة والسُحب تجوبها في ظهر يوم أذكر أنه كان حسن الجو، ثم قفز ذلك السؤال إلى رأسي. أخذني السؤال إلى أعماق أعماقي حتى أصابني الذهول من هول وقعه على عقلي ونفسي، شعرت أنه سؤالٌ كبيرٌ ومحيّر، ليس كالأسئلة التي يُجاب عليها بسرعة، أو يُمكن الإجابة عليها أصلاً! وفُتِح الباب يومها لعالم ما كان نائماً ومجهولاً في داخلي، تماماً كما كانت الأمريكتان مجهولتين قبل اكتشافهما، وتغيرت معالم تفكيري وإدراكي، تماماً كما تغير رسم الخرائط بعد كولومبوس! خرجت يومها وعقلي ليس كذي قبل، وهو على نفس الحالة إلى اليوم، وإن كَبُر قليلاً وازداد وعياً، ولكن الوعي بالأساس، بالمعنى العميق للكلمة، يبدو وأنه قد وُلِد يومها.

سألت السؤال، واحترت كثيراً، وبدا السؤال مُعجزاً حتى تاه عقلي فيه، فشعرت وكأنني أفقد اتصالي بما حولي وأعي فقط ما يدور بداخلي. لا زمان ولا مكان، فقط أنا والسؤال! لم يستغرق الإحساس لحظات حتى عُدت إلى اتصالي بالدنيا وقررت تأجيل السؤال، ليس خوفاً من أن أفقد عقلي أو طمعاً في أن أجيب عنه لاحقاً حين أكبُر، ولكن فقط لأن عجلة الدنيا تدور بما لا يسمح بأن أظل هكذا طويلاً! هناك الدراسة والطعام والنوم والصلاة ولعب الكرة غير ذلك، وهذا السؤال وما يواكبه لم يكن سهلاً استحضاره من أعماق العقل في دقائق، كما أنني كنت أعشق الذوبان فيه والتوهان في ما يعنيه، فكنت أفضل أن تكون له طقوسٌ خاصة، كالاستلقاء ومشاهدة السماء، أو التطلع عبر النافذة، أو غير ذلك مما يفيد التأمل والاختلاء بالنفس عن الزحام والواجبات والمرح والكُتُب، وكان صعباً للغاية المحافظة على تلك الحالة من التوهان فكانت تنقشع في دقائق، فكنت أعيد الكرة وأسترجعها حتى ينام السؤال، أو يدق الجرس، أو تنادي عليّ أمي، أو تبدأ مباراة كرة!

لا زلت أسأل نفس السؤال الأزلي، ولا زلت أسأله بنفس الطريقة الطفولية، ولا زلت أسأله لأتوه فيه لا لأجيب عنه، فالسؤال بالنسبة لي حالة أريدها، سؤال لا أريد أن أجيب عنه أبداً، أريده أن يظل معقداً ومعجزاً، لأنه إن أُجيب عنه فقد قيمته بالنسبة لي، فهو في عقلي ليظل مطروحاً ومعلقاً هكذا ويقودني إلى الغوص في المزيد من التساؤلات، لتظل علامة الاستفهام فيه تدفعني نحو علامات التعجب! ما هو ذلك السؤال إذن؟!

"ماذا لو لم نكن نحن هنا ولم يكن الخلق ولم يكن شيء، ماذا كان ليكون موجوداً بدلاً منا، وكيف يُجاب عن سؤال خرج من وعيي وهو يسأل عما إذا كان الوعي هذا غير موجود، كيف يمكن له أن يعمل ويجيب وفي ذات الوقت يتخيّل نفسه حالة عدم وجوده؟"، أصمت وأغمض عيني مجدداً، من نحن، لماذا هذا كله، هل هناك أحدٌ غيرنا، كيف، ماذا لو لم نكن هنا، ما الخلق، وما شكل الكون بدونه، أي كون إن كان الكون خلق، ماذا بدلاً منه إذن، فراغ، ولكن الفراغ هو أيضاً خلق، تلك المساحة المخلوقة الموجودة، بما ستُملأ، هل كانت لتوجد، أوليست المساحة خلق أيضاً، إذن تتخفي تلك الأمكنة كلها وينكمش ذلك الحيّز ويخلف وراءه ماذا، نقطة؟ صفر؟ لماذا أسأل ونحن هنا والخلق هنا، لماذا هذا الإرهاق؟! وماذا يعني أن يكون هناك صفراً بدلاً منا. وما هو معنى الدنيا بدوننا، أي دنيا؟ دنيانا؟ ولكنها لن تكون دنيانا إن لم نكن فيها، ستكون دنيا آخرين، من الآخرين؟ هل كانوا سيسألون ذات السؤال، لماذا هم في الدنيا وماذا لو كان هناك آخرين غيرهم، آخرين مثلنا نحن في تلك الحالة؟!

أي معنى للكون بدوننا، وأي إدراك يمكن أن يجيب عن هذا السؤال الإنساني وهو محدود بوجوده من الأصل، إن سألت عن كيفية إدراك الكون في غياب الإنسان لكان من المستحيل الإجابة لأن الإنسان محدود بقدرات إدراكه فهو لا يستطيع أن يدرك إلا في إطار ما يعرف، والسؤال يسأل عما إذا كان كل ما يعرف ليس موجوداً، فهو يتطلب إجابة خارج حدود الإطار الذي يستقي منه أي عقل الإجابات.

ماذا إذن؟ السؤال مطروح في إطار ما أدرك ولكنه يسأل عما يقع خارجه، ولكن لماذا إذن؟ لماذا لا تكون كل الأسئلة التي ندركها نستطيع الإجابة عليها، وكل الأسئلة التي تقع الإجابات عليها خارج إطار الممكن غير موجودة هي أيضاً، لماذا هذا الإعجاز في أن يكون هناك سؤالٌ مُدرك وممكن طرحه ولكن إجابته خارج المُدرك، أي تعجيز هذا، أنظل معلقون هكذا؟! ما هي طبيعة تلك الأسئلة والأشياء التي لا نعلم عنها شيئاً إذن، ما ندركه محدود ومعلوم أو سيُعلَم، ولكن ما لا ندركه لا نهاية له، ما هو إذن كيف يبدو؟! وكيف لنا أن نعلم ذلك ونحن إن علمناه لم يعد مجهولاً ولم يعد مما لا نهاية له من أشياء لا ندركها بل صار من حيزنا الضيق الذي نعرفه!

ما هذا الفخ إذن، لا نستطيع أن نعلم عن أي شيء من العوالم اللامنتهية إلا وصارت لحظة معرفتنا بها من عالمنا الفاني، ولكن كيف نحيط بهذه العوالم الخفية إذن، ماذا إن استطعنا أن نضع كل هذا اللامنتهي في وعاء واحد وأصبحت الإنسانية تحيط بكل شيء علماً، هل نصبح آلهة مثلاً؟! أم أن الألوهية ليست بالضرورة بالقدرة على إجابة الأسئلة. وكيف يمكن أن نضع شيء لا نهاية له في وعاء، مستحيل بكل الوسائل. أين يوجد أصلاً شيء لا نهاية له. ماء لا نهاية له مثلاً، سيجعل هذا من الوجود لا نهاية له لكي يستطيع استيعاب كل هذا الماء وسنغرق قطعاً وحينها لن تجدي سفينة نوح نفعاً! أي مخلوق لو كان بلا نهاية لأدى إلى نفس النتيجة، إذن الوجود كله يجب أن يكون له نهاية. جيد جداً، ولكن أين هذا الذي لا نهاية له، هو خارج الوجود وليس بموجود، كما استنتجنا، إذن هو على الورق فقط؟ فقط تلك العلامة لتعبر عنه؟!

مرة أخرى، من نحن إذن، نحن الموجودون، المحدودون، أي حال كانت لتكون عليه الدنيا لو كان هناك غيرنا أي وجود من خيارات لا نهاية لها عدا الإنسانية، كيف يمكن أن نتصور كون بدون إنسانية، وكيف يجيب عقلنا عن هذا السؤال وهو عقل إنساني متحيز لإجابات تضعه دائماً في المركز والسؤال يمحيه أساساً كمخلوق، لربما خُلِق غيره بدلاً منه، ولربما اختلفت تماماً فلسفة الخلق في هذا الحالة. ماذا لو لم يكن هناك خلق من الأساس، فقط الخالق! ماذا لو لم يكن هناك وجود، فقط الواجد!

ماذا إذن، يعود عقلي ويدرك في ثواني أنه يجب أن يستعيد مركزيته التي وهبه إياها الخالق ليفكر بها ويطرح تلك الأسئلة التعجيزية من الأساس فيسأل عني وعن الإنسانية، من نحن؟ ومجدداً يظل يتوه ويغوص حتى ينتبه ويعود إلى الإنسانية، إلى الحدود، إلى الوجود، ثم يأتي ميعاد الغذاء، أو وقت الواجب، أو يؤذّن للأذان، أو ينطلق مدفع الإفطار، فأنسحب تماماً إلى إنسانيتي وأترك السؤال، مرة أخرى، لأتوه فيه لاحقاً، مرة أخرى.

يُتبَع إن شاء الخالق

معابد النصر وصخور الحقيقة




في الحرب ... الحقيقة هى الضحية الأولى" ... إسخيلوس (كاتب مسرحي إغريقي)


"قمة المهارة ليست في تحقيق مائة انتصار، ولكن في إخضاع العدو بدون قتال" ... سون تسو (فيلسوف وضابط ومخطط عسكري صيني قديم)

وحده كان يعلم حجم النصر وحجم الهزيمة. هو فقط دوناً عن غيره من البشر، كان يعلم الحقيقة الكاملة. تقدمت جيوشه شرقاً وانطلقت في طريق النصر وما إن بدأ يكتب تفاصيل الملحمة حتى التفت حوله جيوش العدو. كان هو قائد المعركة، كان هو المسؤول الأول عن قواته وما جرى لها، هو الذي ترك الفرق الثلاثة في الخلف متقدماً مع فرقته إلى الأمام، حتى سنحت الفرصة أمام العدو لاختراق الصفوف والالتفاف عليه وضربه.

لم يكن على استعداد للتخلي عن النصر المعنوي الذي حققه الجيش، ولكنه كان يعلم أنه في مأزق كبير قد يطيح به وبأحلامه في استعادته للمدينة التي سلبوها منه. طعنت الجيوش المعادية، وفقد القائد المنتصر ثلث جيشه، وحوصرت أحلامه وجيوشه الثلاثة تتفرق وتُهزم في الصحراء وعلم أن أهداف معركته بدأت تبتعد بعد أن كانت تقترب.

كانت المدينة قد ضاعت وقت جلوسه على عرشه خلفاً لوالده، وكانت ذات أهمية شديدة وقد أوصى والده له بألا يتركها تضيع أبداً. وما هى سنوات بعد اعتلائه العرش حتى بدأ الملك الجديد يعد العدة للهجوم واستعادة ما ضاع. تفانت جنوده في الولاء له، وساندته بعض الممالك المجاورة التي كسبها والده في صف المملكة. بدأت عربات الجيش المتقدم تدور أسرع وأسرع حتى وقفت بعد عبور النهر. وبعد العبور، وقف الجيش منتظراً أوامر الهجوم الجديدة.

لم تكن هناك أوامر هجوم جديدة غير تلك التي أعدها العدو والتي نفذها مفاجئاً بها فرق الجيش المنتصر. وصلت الأخبار إلى القائد ولم يكن يدري ماذا يفعل، تفرقت الفرق الثلاثة تماماً، ولم تعد سوى فرقته هو في الأمام. كان القائد محظوظاً للغاية، فقد أتته جنود إحدى الممالك الموالية للمملكة تضرب معه منقذة إياه من هزيمة محققة ومشتتة جهد أعداء المملكة، إلا أن النصر الذي حققه الملك بالتقدم كان يعلم جيداً أنه لم يعطي شيئاً للمملكة سوى فرحة بين جنوده.

استغرق الملك في التفكير، هل يسلّم بالواقع وينسى الوصية ويكتفي بالفرح أم يستمر في الطريق الطويل ويصارح الناس بكل التفاصيل. قرر الملك أن يستمر ويمضى، ونجح مجدداً في دخول المدينة، ولكنها ما لبثت تضيع من جديد. هذه المرة قرر الملك أن يسلم ويعود إلى العاصمة. قبل عودته، وقع الملك بيده اتفاقاً مع العدو يقر فيه بالتخلي عن المدينة، وحمل معه ما خطه بيده عن ملحمة النصر.

عندما عاد الملك إلى بلاده أخذ يزف إليها أنباء النصر المعظم الذي لم يكذبه أحد أو يسأل عن تفاصيله، فقد ابتهج الجميع، ومن يكره الفرحة ومن يكره النصر، ومن يطيق البحث والتنقيب عن معركة على بعد آلاف الأمتار ومزامير النصر في كل مكان؟ أخذ القائد المغوار يملي على أتباعه قصة الملحمة الكبرى وأخذوا يكتبون وينحتون على جدران المعابد. أقيمت معابد جديدة خصيصاً لتخليد ذكرى النصر، وصارت تعج بالقصص الملحمية عن جنوده وكادت حروفها تنطق بصراخ جنود أعدائه، الذين اكتووا بنار جيشه. أما في المدينة المسلوبة، فلم تُنحَت سوى المعاهدة المشؤومة على صخرة ليُسجل أول اتفاق سلام، أو استسلام، في التاريخ، عام 1275 قبل الميلاد.

 نص الاتفاق، رغماً عن وصية الأب، بأن تخرج مدينة قادش عن السيطرة المصرية، وتعهد مصر بعدم الدخول في أي جهد معادي للمملكة الحيثية أو العكس، واكتفى رمسيس بما نجح أبيه في الحصول عليه في فلسطين ولبنان اليوم، تاركاً سوريا تحت حكم الملك خطوشلي الثالث، ملك الحيثيين.

تعج معابد مصر بروايات رمسيس عن معركة قادش. أما اتفاق السلام الذي وقعه رمسيس الثاني، ثالث ملوك الأسرة الـتاسعة عشرة، بيديه ووقعه ملك الحيثيين، فيقول بغير ذلك.

لم يكتفي رمسيس فقط بالتنازل عن قادش، ولكنه نسب كل الجهود الحربية إليه وإلى جيشه، ونسي كل المجهودات التي أتته من الممالك المجاورة. فما قدمته المملكة الكنعانية في اللحظات الأخيرة، والتي من دونها لربما مات هو نفسه في المعركة لم يذكرها، ومملكة أمورّو التي ساندته في معركته الأولى التي وصل فيها إلى مدينة قادش قبل أن تلتف جنود الحيثيين وتطعنه من الخلف، كذلك لم يذكرها.

شيُّدَت المعابد، وكُتِبَت ونُحتَت حقائق وأساطير، وعبدت الجماهير، وظلت تعبد، ولا تزال تعبد إلى اليوم، في نفس  المعابد، ولا تزال المعاهدات المشؤومة منحوتة على صخور الواقع، ولا تزال أقدام العدو تعيث على حدودنا كما تشاء، وستظل تعيث حتى تخرج الأمة من معابد النصر إلى ساحات القتال، وتستطيع أن تنحت إنتصارها على صخور الواقع قبل أن تنحتها على جدران المعابد.


 والله أعلم

تطبيق الشريعة بدون المادة الثانية

نشرته شبكة رصد الأحد الموافق 25.09.2011



هؤلاء هم أنصار حزب العدالة والتنمية، ليسوا كلهم من الإسلاميين، ولكنهم كلهم ممن حررتهم فلسفة الشريعة وجعلت كلاً منهم إنساناً حراً

لأسباب غير معروفة ... يعتقد قطاع عريض من المصريين بأن المادة الثانية هي حصن للشريعة الإسلامية في مصر، وقد فوجئ العديد من هؤلاء، ومنهم إسلاميين، بما قاله أردوغان عن التزامه بعلمانية الدولة التركية، بل لعلهم شعروا بإحباط شديد من كلام الرجل، وقد دفع هذا كثير منهم إلى تفسير كلامه على أنه تراجع عن جذوره الإسلامية أو أنه يمارس التقيّة ليحمي أجندته الإسلامية الخفية


في الواقع، الأمر لا هذا ولا ذاك، أردوغان لا يملك أجندة إسلامية خفية، ولم يتراجع عن جذوره الإسلامية، لكنه ببساطة لا يحمل تصورات "جامدة" عن الإسلام والشريعة، فالشريعة لا تحتاج إلى مادة في الدستور ليتم تطبيقها، وهي ليست بالأساس الحدود أو أن ترث المرأة نصف ما يرث الرجل، ولكنها بالأساس نظام يهدف إلى حماية الدين والعقل والنفس والنسل والمال، أي حماية الإنسان وما يملكه روحياً وعقلياً ونفسياً ومادياً.


حماية الإنسان لا تحتاج إلى دولة أو دستور، بل العكس، هي تحتاج إلى تحقيق أعلى قدر من الحرية في مواجهة أي مؤسسة وأي نص قانوني قد يجبرانه على عكس ذلك. فالدولة في التاريخ الإسلامي كانت تضطلع بأدوار صغيرة للغاية ممثلة في القصر والسلطان في مقابل المجتمع الذي كان يحظى بحرية لا مثيل لها من حيث استقلال ماله بنظام مثل الوقف، واستقلال عقله بإقامة مؤسسات تعليمية أهلية لم يكن للدولة اليد العليا فيها كالمدارس والكتاتيب، واستقلال دينه من حيث غياب أي مؤسسة دينية تابعة مباشرة للدولة، فكان العلماء والفقهاء طبقة مستقلة عن السلطة.


هذا هو لُب الشريعة، هو تحرير الإنسان، وهذا هو عين ما يفعله أردوغان في تركيا، فهي يحرر الإنسان التركي من قبضة الدولة، ليس لأنها علمانية، ولكن لأن سيطرة الدولة على حياة الإنسان ومركزيتها في حياته يتناقض مع روح الشريعة، فلو كانت الدولة التركية إسلامية قُح كنظيرتها في إيران، لفرضت علينا مقاصد الشريعة أن نفعل نفس ما يفعله أردوغان مع الدولة العلمانية، أن نحرر الإنسان منها ليصنع مجتمعه الحر.


تلك هي الإسلامية التي يقوم عليها المشروع التركي والتي حيرت الناس كثيراً، هي إسلامية الإنسان، أن يكون الإنسان حراً، وأن تكون الشريعة أيضاً حرة، فهي ملك للمجتمع وليس للدولة، ومقاصدها تتحقق بالمجتمع وليس بالدولة، بالرغبة المجتمعية في العمل والعبادة والتفكّر والنهوض وليس بسلطة المادة الثانية!


المجتمع التركي لديه تلك الرغبة، وهو يحقق بها مقاصد الشريعة ويطبقها بالإنسان، أما في مصر، فالشريعة ليست مرتبطة في الأذهان بالإنسان للأسف، ولكن بالمادة الثانية! أردوغان لا يملك أجندة خفية لإقامة دولة إسلامية، ولم يتراجع عن مبادئه أو يقرر الاستستلام لدولة علمانية، ولكنه ببساطة أدرك أن مقاصد الشريعة هي في تحرير الإنسان وليس في أسلمة الدولة، ولنا في إيران وأفغانستان طالبان والسودان أمثلة على دول إسلامية وإنسان مكبّل لا يمت لمقاصد الشريعة بصلة، في حين تركيا ذات الدولة العلمانية يصوت فيها الليبراليون لأردوغان لأنه يحميهم ويحمي عقولهم ونفوسهم ومالهم ونسلهم وروحهم، تماماً كما أتت العديد من المجموعات ذات الخلفيات الفكرية والمذهبية والدينية المختلفة، في تاريخنا الإسلامي، إلى بلاد المسلمين بحثاً عن الحرية.


تطبيق الشريعة لا يحتاج إلى مادة ثانية ولا إلى دستور إسلامي ودولة إسلامية، تطبيق الشريعة يأتي من أسفل، من المجتمع ذاته، من رغبته في أن يكون حراً ومستقلاً بروحه ونفسه وعقله وماله ونسله عن أي استبداد، حين يتحرر الإنسان، تكون الشريعة قد طُبقت.


لهذا السبب، تركيا لديها مشروع إسلامي رُغم وجود دولة علمانية، ومصر ليس لديها مشروع إسلامي رُغم وجود المادة الثانية. لأن الإسلاميين في مصر يؤمنون بالدولة، والإسلاميين في تركيا يؤمنون بالإنسان، لأن الإسلاميين في مصر الأكثر احتمالاً للفوز في الانتخابات، والإسلاميين في تركيا الأكثر حرصاً على النهوض بالجميع، لأن إسلاميي مصر يعيشون حالة "ابتزاز" تجاه التيارات الأخرى بعضلاتهم، وإسلاميي تركيا يعيشون حالة "اعتزاز" تجاه أنفسهم ومجتمعهم بنهضتهم.


الشريعة بالمجتمع لا بالدولة، الشريعة تنمو من أسفل لا تُطبق من أعلى. 


والله أعلم.